فصل: تفسير الآيات (77- 81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (77- 81):

{قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)}
{قَالَ موسى} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال تنساق إليه الأذهانُ كأنه قيل: فماذا قال لهم موسى حينئذٍ؟ فقيل: قال على طريقة الاستفهامِ الإنكاريِّ التوبيخيِّ: {أَتقُولُونَ لِلْحَقّ} الذي هو أبعدُ شيءٍ من السحر الذي هو الباطلُ البحتُ {لَمَّا جَاءكُمْ} أي حين مجيئِه إياكم ووقوفِكم عليه أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبرٍ، وكلا الحالين مما ينافي القولَ المذكور، والمقولُ محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبله وما بعده عليه وإيذاناً بأنه مما لا ينبغي أن يُتفوَّه به ولو على نهج الحكاية، أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحرٌ يعني به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائلٌ ويتكلمَ به متكلمٌ أو القول بمعنى العيب والطعن، من قولهم: فلان يخاف القالَةَ، وبين الناسِ تقاولٌ إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ونظيرُه الذكرُ في قوله تعالى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} الخ، فيُستغنى عن المفعول أي أتعيبونه وتطعنون فيه وعلى الوجهين فقوله عز وجل: {أَسِحْرٌ هذا} إنكارٌ مستأنفٌ من جهته عليه السلام لكونه سحراً وتكذيبٌ لقولهم وتوبيخٌ لهم على ذلك إثرَ توبيخٍ وتجهيلٌ بعد تجهيلٍ، أما على الأول فظاهرٌ وأما على الثاني فوجهُ إيثارِ إنكارِ كونه سحراً على إنكار كونِه معيباً بأن يقال مثلاً: أفيه عيبٌ حسبما يقتضيه ظاهرُ الإنكارِ السابق التصريحَ بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيهِ بالإنكار السابقِ على أن ليس فيه شائبةُ عيبٍ ما وما في هذا من معنى القربِ لزيادة تعيينِ المشارِ إليه واستحضارِ ما فيه من الصفات الدالةِ على كونه آيةً باهرةً من آيات الله المناديةِ على امتناع كونِه سحراً أي أسحرٌ هذا الذي أمرُه واضحٌ مكشوفٌ وشأنُه مشاهَدٌ معروفٌ بحيث لا يرتاب فيه أحدٌ ممن له عين مبُصِرةٌ وتقديمُ الخبر للإيذان بأنه مُنْصَبُّ الإنكارِ ولما استلزَم كونُه سحراً كونَ من أتى به ساحراً أكِّد الإنكارُ السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل بقوله عز وجل: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} وهو جملةٌ حالية من ضمير المخاطَبين والرابطُ هو الواو بلا ضمير كما في قول من قال:
جاء الشتاءُ ولست أملِك عُدّةً

وقولِك: جاء وحده زيدٌ ولم تطلُع الشمس أي أتقولون للحق إنه سحرٌ والحالُ أنه لا يُفلح فاعلُه أي لا يظفَر بمطلوب ولا ينجو من مكروه فكيف يمكن صدورُه من مثلي من المؤيَّدين من عند الله العزيزِ الحكيم الفائزين بكل مطلب الناجين من كل محذورٍ وقوله تعالى: {أَسِحْرٌ هذا} جملةٌ معترضةٌ بين الحال وصاحبِها أكّد بها الإنكارُ السابقُ ببيان استحالةِ كونه سحراً بالنظر إلى ذاته قبل بيانِ استحالتِه بالنظر إلى صدوره عنه عليه السلام هذا، وأما تجويزُ أن يكون الكلُّ مقولَ القولِ على أن المعنى أجئتما السحر تطلُبان به الفلاحَ ولا يفلح الساحرون؟ فمما لا يساعده النظمُ الكريم أصلاً أما أولاً فلأن ما قالوا هو الحكمُ بأنه سحرٌ من غير أن يكون فيه دِلالةٌ على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه فصرفُ جوابِه عليه السلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يُفهم منه أصلاً مما يجب تنزيهُ النظمِ التنزيليِّ عن الحمل على أمثاله وأما ثانياً فلأن التعرضَ لعدم إفلاحِ السحرةِ على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبينِ دون الكثرةِ المتشبثين بأذيال بعضٍ منهم في معارضته عليه السلام ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيصَ عدم الإفلاح بمن زعموه ساحراً بناءً على غلبة من يأتون به من السحرة وأما ثالثاً فلأن قولَه عز وجل: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا} الخ، مسوقٌ لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجرَ فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلقٌ بكلامه عليه السلام فضلاً عن الجواب الصحيحِ واضطروا إلى التشبّث بذيل التقليدِ الذي هو دأبُ كل عاجزٍ محجوجٍ وديدنُ كلِّ عاجزٍ على أنه استئنافٌ وقع جواباً عما قبله من كلامه عليه السلام على طريقة قوله تعالى: {قَالَ موسى} الخ، حسبما أشير إليه، كأنه قيل: فماذا قالوا لموسى عليه السلام عندما قال لهم ما قال؟ فقيل: قالوا عاجزين عنه المحاجّة: أجئتنا {لِتَلْفِتَنَا} أي لتصْرِفنا فإن الفتلَ واللفتَ أخوَان {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} أي من عبادة الأصنامِ، ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامِه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونِه محكياً من قِبَلهم يكون جوابُه عليه السلام خالياً من التبكيت الملجىءِ لهم إلى العدول عن سنن المُحاجّة ولا ريب في أنه لا علاقةَ بين قولِهم: أجئتنا الخ، وبين انكارِه عليه السلام لما حُكيَ عنهم مصححةٌ لكونه جواباً عنه {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء} أي المُلكُ أو التكبرُ على الناس باستتباعهم وقرئ {ويكون} بالياء التحتانية.
وكلمة {في} في قوله تعالى: {فِى الارض} أي أرض مصرَ متعلقةٌ بتكون أو بالكبرياء أو بالاستقرار في لكما لوقوعه خبراً أو بمحذوف وقع حالاً من الكبرياء أو من الضمير في لكما لتحمُّله إياه {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي بمصدّقين فيما جئتما به وتثنيةُ الضمير في هذين الموضعين بعد إفرادِه فيما تقدم من المقامين باعتبار شمولِ الكبرياءِ لهما عليهما السلام واستلزامِ التصديقِ لأحدهما التصديقَ للآخر، وأما اللفتُ والمجيءُ له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعةِ أسند إلى موسى عليه السلام خاصة {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} توحيدُ الفعلِ لأن الأمرَ من وظائف فرعونَ أي قال لملئه يأمرُهم بترتيب مبادي إلزامِهما عليهما السلام الفعل بعد اليأسِ من إلزامهما عليهما السلام بالفعل بعد اليأسِ من إلزامهما بالقول: {ائتونى بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ} بفنون السحر حاذقٍ ماهرٍ فيه، وقرئ {سحار} {فَلَمَّا جَاء السحرة} عطف على مقدر يستدعيه المقامُ قد حذف إيذاناً بسرعة امتثالِهم لأمر فرعونَ كما هو شأنُ الفاء الفصيحة في كل مقام أي فأتَوا به فلما جاؤا {قَالَ لَهُمْ موسى} لكن لا في ابتداء مجيئِهم بل بعد ما قالوا له عليه السلام ما حُكي عنهم في السور الأُخَرِ من قولهم: {إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} ونحو ذلك {أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} أي ملقون له كائناً ما كان من أصناف السحر {فَلَمَّا أَلْقُوْاْ} ما ألقَوْا من العِصِيّ والحبالِ واسترهبوا الناسَ وجاؤوا بسحر عظيم {قَالَ} لهم {موسى} غيرَ مكترثٍ بهم وبما صنعوا {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} ما موصولةٌ وقعت مبتدأ والسحرُ خبرُه أي هو السحرُ لا ما سماه فرعونُ وقومه من آيات الله سبحانه أو هو من جنس السحرِ يُريهم أن حالَه بيِّن لا يُعبأ به كأنه قال: ما جئتم به مما لا ينبغي أن يجاء به، وقرئ {أالسحر} على الاستفهام فما استفهاميةٌ أي أيُّ شيء جئتم به أهو السحرُ الذي يعرِف حالَه كلُّ أحدٍ ولا يتصدى له عاقلٌ؟ وقرئ {ما جئتم به سحرٌ} وقرئ {ما أتيتم به سحرٌ} ودلالتُهما على المعنى الثاني في القراءة المشهورة أظهرُ {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} أي سيمحقه بالكلية بما يُظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثرٌ أصلاً أو سيظهر بطلانُه للناس والسين للتأكيد {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي عملَ جنسِ المفسدين على الإطلاق فيدخل فيه السحرُ دخولاً أولياً أو عملُكم فيكون من باب وضعِ المظهرِ موضعَ المضمرِ للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعارِ بعلة الحكم، وليس المرادُ بعدم إصلاحِ عملِهم عدَم جعل فسادِهم صلاحاً بل عدمَ إثباتِه وإتمامِه أي لا يُثبته ولا يُكمله ولا يُديمه بل يمحقه ويُهلكه ويسلِّط عليه الدمارَ، والجملةُ تعليلٌ لما سبق من قوله: {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} والكلُّ اعتراضٌ تذييليٌّ وفيه دليلٌ على أن السحر إفسادٌ وتمويهٌ لا حقيقةٌ له.

.تفسير الآيات (82- 83):

{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)}
{وَيُحِقُّ الله الحق} عطفٌ على قوله: سيبطله أي يثبته ويقوّيه، وإظهارُ الاسم الجليلِ في المقامين الأخيرين لإلقاء الروعةِ وتربيةِ المهابةِ {بكلماته} بأوامره وقضاياه وقرئ {بكلمته} {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} ذلك والمرادُ بهم كلُّ من اتصف بالإجرام من السحَرة وغيرِهم.
{فَمَا ءامَنَ لموسى} معطوفٌ على مقدر قد فصل في مواقعَ أُخَرَ، أي فألقى عصاه فإذا هي تلقَف ما يأفِكون الخ، وإنما لم يذكر تعويلاً على ذلك وإيثاراً للإيجاز وإيذاناً بأن قوله تعالى: {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} مما لا يحتمل الخُلفَ أصلاً وعطفُه على ذلك بالفاء مع كونه عدماً مستمراً من قبيل ما في قوله عز وجل: {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} وما في قولك: وعظتُه فلم يتعظ وصِحتُ به فلم ينزجِرْ والسرُّ في ذلك أن الإتيانَ بالشيء بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسب العنوانِ فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ أي فما آمن له عليه السلام بمشاهدة تلك الآياتِ القاهرة {إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ} أي إلا أولادٌ من أولاد قومِه بني إسرائيلَ حيث دعا الآباءَ فلم يجيبوه خوفاً من فرعون وأجابتْه طائفةٌ من شبانهم، وقيل: الضميرُ لفرعون والذريةُ طائفةٌ من شبانهم آمنوا به عليه السلام أو مؤمنُ آلِ فرعونَ وامرأتُه آسيةُ وخازنُه وامرأتُه وما شطتُه وهو بعيد {على خَوْفٍ} أي كائنين على خوف عظيم {مِن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِم} الضميرُ لفرعون والجمعُ لما هو المعتادُ في ضمائر العظماءِ ولا يأباه مقامُ بيانِ علوِّه في الفساد وغلوِّه في الشر والتسلطِ على العباد، أو لأن المرادَ به آلُه كما يقال: ربيعةُ ومضرُ أو للذرية أو للقوم أي على خوف من فرعونَ ومن أشراف بني إسرائيلَ حيث كانوا يمنعون أعقابَهم خوفاً من فرعونَ عليهم وعلى أنفسهم {أَن يَفْتِنَهُمْ} أي يعذّبَهم وهو بدلُ اشتمالٍ أو مفعولُ خوفٍ فإن إعمالَ المصدرِ المنكّر كثيرٌ كما في قوله عز وجل: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً} أو مفعولٌ له بعد حذفِ اللامِ، وإسنادُ الفعلِ إلى فرعون خاصةً لأنه الآمرُ بالتعذيب {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارض} لغالبٌ في أرض مصرَ {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} في الظلم والفسادِ بالقتلِ وسفكِ الدماءِ أو في الكبر والعتوِّ حتى ادّعى الربوبيةَ واسترقَّ أسباطَ الأنبياءِ، والجملتانِ اعتراضٌ تذييليٌّ مؤكدٌ لمضمون ما سبق.

.تفسير الآيات (84- 87):

{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}
{وَقَالَ مُوسَى} لما رأى تخوّفَ المؤمنين منه {ياقوم إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ} أي صدقتم به وبآياته {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ} وبه ثقِوا ولا تخافوا أحداً غيرَه فإنه كافيكم كلَّ شرَ وضُرّ {إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ} مستسلمين لقضاءِ الله تعالى مخلِصين له، وليس هذا من تعليق الحُكمِ بشرطين فإن المعلَّقَ بالإيمان وجوبُ التوكلِ عليه تعالى فإنه المقتضي له، والمشروط بالإسلام وجودُه فإنه لا يتحقق مع التخليد، ونظيرُه: إنْ أحسنَ إليك زيدٌ فأحسنْ إليه إن قدَرتَ عليه {فَقَالُواْ} مجيبين له عليه السلام من غير تعلثم في ذلك {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} لأنهم كانوا مؤمنين مخلِصين ثم دعَوا ربَّهم قائلين: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} أي موقعَ فتنةٍ {لّلْقَوْمِ الظالمين} أي لا تسلِّطْهم علينا حتى يعذّبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يُفتَتنوا بنا ويقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لَما أصيبوا وقوله تعالى: {وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} دعاءٌ منهم بالإنجاء من سوء جوارِهم وشؤمِ مصاحبتِهم بعد الإنجاءِ من ظلمهم، عبّر عنهم بالكفر بعدما وُصفوا بالظلم، وفي ترتيب الدعاءِ على التوكل تلويحٌ بأن الداعَي حقُّه أن يبنيَ دعاءَه على التوكل على الله تعالى {وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا} أنْ مفسرةٌ لأنّ في الوحي معنى القولِ أي اتخذا مَباءةً {لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} تسكُنون فيها وترجِعون إليها للعبادة {واجعلوا} أنتما وقومكما {بُيُوتِكُمْ} تلك {قِبْلَةَ} مصلّىً وقيل: مساجدَ متوجهةً نحو القِبلة يعني الكعبةَ فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} أي فيها، أُمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهرَ عليهم الكفرةُ فيؤذوهم ويفتِنوهم عن دينهم {وَبَشّرِ المؤمنين} بالنصرة في الدنيا إجابةً لدعوتهم والجنةِ في العقبى، وإنما ثُنِّيَ الضميرُ أولاً لأن التبوُّؤَ للقوم واتخاذَ المعابد مما يتولاه رؤساءُ القوم بتشاور، ثم جُمع لأن جعلَ البيوتِ مساجدَ والصلاةَ فيها مما يفعله كلُّ أحدٍ، ثم وُحِّد لأن بشارةَ الأمةِ وظيفةُ صاحبِ الشريعة، ووضعُ المؤمنين موضعَ ضميرِ القوم لمدحهم بالإيمان والإشعار بأنه المدارُ في التبشير.

.تفسير الآيات (88- 90):

{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)}
{وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً} أي ما يُتزَيَّن به من اللباس والمراكبِ ونحوِها {وَأَمْوَالاً} وأنواعاً كثيرةً من المال {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِك} دعاءٌ عليهم بلفظ الأمرِ بما عُلم بممارسة أحوالِهم أنه لا يكون غيرُه، كقولك: لعن الله إبليسَ، وقيل: اللامُ للعاقبة وهي متعلقةٌ بآتيتَ أو للعلة لأن إيتاءَ النعم على الكفر استدراجٌ وتثبيت على الضلال ولأنهم لما جعلوها ذريعةً إلى الضلال فكأنهم أُوتوها ليُضلوا فيكون ربَّنا تكريراً للأول تأكيداً أو تنبيهاً على أن المقصودَ عرضُ ضلالِهم وكفرانِهم تقدمةً لقوله تعالى: {رَبَّنَا اطمس على أموالهم} الطمسُ المحوُ وقرئ بضم الميم أي أهلكْها {واشدد على قُلُوبِهِمْ} أي اجعلها قاسيةً واطبَع عليها حتى لا تنشرحَ للإيمان كما هو قضيةُ شأنهم {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} جوابٌ للدعاء أو دعاءٌ بلفظ النهي أو عطفٌ على ليضلوا وما بينهما دعاء معترض {حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم} أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} يعني موسى وهارون عليهما السلام لأنه كان يؤمن كما يشعر به إضافةُ الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقعِ الثلاثةِ {فاستقيما} فاثبُتا على ما أنتما عليه من الدعوة وإلزام الحجةِ ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائنٌ في وقته لا محالة. روي أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة.
{وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي بعادات الله سبحانه في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلةِ في الاستعجال أو عدمِ الوثوق بوعد الله تعالى وقرئ بالنون الخفيفةِ وكسرِها لالتقاء الساكنين، {ولا تتْبعانِ} من تبع {ولا تتّبعانِ} أيضاً {وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر} هو من جاوز المكانَ إذا تخطاه وخلفه والباء للتعدية أي جعلناهم مجاوزين البحرَ بأن جعلناه يبساً وحفِظناهم حتى بلغوا الشط وقرئ {جوّزنا} وهو من التجويز المرادفِ للمجاوزة لا مما هو بمعنى التنفيذ نحو ما وقع في قول الأعشى:
كما جوّز السّكِّيَّ في الباب فيتقُ

وإلا لقيل: وجوزنا بني إسرائيلَ في البحر ولخلا النظمُ الكريم عن الإيذان بانفصالهم عن البحر وبمقارنة العنايةِ الإلهية لهم عنَوا الجوازَ كما هو المشهور في الفرق بين أذهبه وذهَب به {فَأَتْبَعَهُمْ} يقال: تبِعتُه حتى أتبعتُه إذا كان سبقك فسبقتَه أي أدركهم ولحِقهم {فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ} حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان {بَغْيًا وَعَدْوًا} ظلماً واعتداءً أي باغين وعادين أو للبغي والعدوان وقرئ {وعدواً} وذلك أن موسى عليه السلام خرج ببني إسرائيلَ على حين غفلةٍ من فرعون فلما سمع به تبِعهم حتى لحِقهم ووصل إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلُكهم باق على حاله يبَساً فسلكه بجنوده أجمعين فلما دخل آخرُهم وهم أولُهم بالخروج غشِيهم من اليم ما غشيهم {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق} أي لحِقه وألجمه {قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ} أي بأنه والضميرُ للشأن وقرئ {أنه} على الاستئناف بدلاً من آمنت وتفسيراً له {لا إله إِلاَّ الذي ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل} لم يقل كما قاله السحرةُ: آمنا بربّ العالمين ربَّ موسى وهارون بل عبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلتُه إيمانَ بني إسرائيل به تعالى للإشعار برجوعه عن الاستعصاء وباتباعه لمن كان يستتبعهم طمعاً في القبَول والانتظامِ معهم في سلك النجاة {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} أي الذين أسلموا نفوسَهم لله أي جعلوها سالمةً خالصةً له تعالى وأراد بهم إما بني إسرائيلَ خاصةً وأما الجنسَ وهم داخلون فيه دخولاً أولياً، والجملةُ على الأول عطفٌ على آمنت، وإيثار الاسميةِ لادعاء الدوامِ والاستمرارِ وعلى الثاني يحتمل الحاليةَ أيضاً من ضمير المتكلمِ أي آمنتُ مخلصاً لله منتظماً في سلك الراسخين فيه، ولقد كُرّر المعنى الواحد بثلاث عباراتٍ حرصاً على القبول المفضي إلى النجاة وهيهاتَ هيهاتَ بعد ما فات وأتى ما هو آتٍ.